Fana: At a Speed of Life!

سد النهضة الإثيوبي.. السيرة والمسيرة

 ياسين أحمد، رئيس المعهد الاثيوبي للدبلوماسية الشعبية

 مع بداية الاسبوع الثاني من شهر سبتمبر 2025، تحتفل إثيوبيا بعامها الجديد 2018 حسب التقوم الاثيوبي بافتتاح مشروع سد النهضة، أحد أضخم مشروعاتها القومية وأكثرها جدلاً في القارة الأفريقية، مشروع ظل حلماً يراود أجيالاً من الحكام والشعوب لعقود طويلة، قبل أن يتحول إلى واقع معاش، تجسدت فيه إرادة الشعوب وعزيمة القيادات، ومع اكتمال سد النهضة، لم تعد الطموحات وعوداً مؤجلة، بل إنجازاً ملموساً يتجاوز حدود إثيوبيا، ويحمل بين طياته طاقة أفريقية لصنع مستقبل جديد للشعوب السمراء.

ما بين الحلم والفكرة  

هذه الملحمة التي امتدت لسنوات ليست مجرد حكاية بناء سد، بل قصة كفاح وصمود، تقاطعت فيها التضحيات مع التحديات، والانكسارات مع الانتصارات، كانت مجرد حلم، يرتبط بخيط رفيع مع الفكرة التي ظلت ترواد إنسان هذه الدولة القارة، حتى خرج المشروع إلى النور، وتلك قصة أخرى أرادت إثيوبيا أن ترويها من منظورها، لا كسردية هندسية فحسب، بل كرواية مدعومة بالحقائق التاريخية والقانون الدولي الذي يحكم مجاري الأنهار العابرة للحدود كما أقرت الأمم المتحدة، وتلك مسارات نجاح يحسب لحكومة الأزدهار التي تجسد قيم ومعاني إسمها من أجل تحقيق أحلام شعبها الذي طالما منحها الثقة.

وفي مقابلة حديثة، استعاد رئيس حزب الأزدهار الحاكم بإثيوبيا ،رئيس الوزراء الدكتور آبي أحمد،  جذور هذا الحلم الذي يعود إلى ألف عام، مستعرضا كيف أن المعاناة تحولت إلى فكرة المسنودة والمدعومة بالتزام وطني، وإرادة شعبية قهرت المستحيل، وأكد قائد هذه المسيرة في أحد أهم مساراتها الطويلة، أن ما جعل السد ممكناً هو التفاعل الشعبي غير المسبوق، إذ اعتبر الإثيوبيون المشروع التزاماً قومياً، فتبرعوا من رواتبهم المحدودة، وتعاملوا معه باعتباره رمزاً للتحرر والسيادة الوطنية، وفق حديث رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.

الإنجاز التاريخي شارك فيه كل القادة

ومنذ أن تم وضع حجر الأساس في الثاني من إبريل العام 2011، على يد رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ملس زيناوي، والذي أطلق عليه حينها القائد الذي قهر النيل، ( أباي يدفر مري) “አባይን የደፈረ መሪ” ، مروراً بفترة قيادة رئيس الوزراء الإثيوبي السابق، هايلي ماريام ديسالين الذي وقّع إعلان المبادئ مع مصر والسودان في الخرطوم عام 2015، وصولاً إلى الحكومة الاثيوبية الحالية المعروفة بحكومة التغيير والاصلاحات التي يقودها آبي أحمد، ظل السد مشروعاً عابراً للحكومات، فوق الخلافات الداخلية مشكلا عنصر وحدة وتوافق بين كل القادة برغم تباين رؤية كل منهما في حكم البلاد، لكن سد النهضة ظل هو القاسم القومي المشترك، مسجلا في كل محطة نجاح جديد، أمام شتى أنواع التحديات السياسية والإقتصادية المتصاعدة تباعا، تبرز معها عزيمة القيادة وإصرار الشعوب ما شكّلا السند الحقيقي للمشروع والحلم والفكرة.

بين الحلم الشعبي والتحديات الدولية

لعل أبرز التحديات السياسية إقليميا ودوليا لمشروع سد النهضة الذي ظل حلم شعبي، تمثلت في محاولات القاهرة التي عمدت نحو تدويل الملف، سواء عبر الجامعة العربية أو مجلس الأمن الدولي، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل، وبقيت المفاوضات تحت رعاية الاتحاد الأفريقي الذي يؤمن بأن يكون حلول القضايا الأفريقية داخل البيت الأفريقي، مستندا على المساعي الإثيوبية التي دائما ما تؤكد بأنها ملتزمة بعدم الإضرار بمصالح جيرانها خاصة دولتي المصب السودان ومصر، وان سد النهضة لا يمثل تهديداً، بل فرصة لتنظيم تدفق مسار النيل وتوسيع دائرة المنافع المشتركة، وهو الأمر الذي ثبت بالدليل والواقع في كل مراحل الملء المتتالية دونما أن تحدث أي ضرر.

ويشير الخبراء والمسؤولين الإثيوبيين إلى أن المشروع ليس مجرد خزان للطاقة، بل تحول إلى قضية سيادية مرتبطة بالأمن القومي، وهو ما أكده المراقبون، على أن سد النهضة الإثيوبي أصبح جزءاً من الأمن المائي الإقليمي، وحمايته وصيانته مسؤولية مشتركة بين دول الحوض، بما أن فوائده تعود على إثيوبيا والسودان ومصر معاً، وتلك احدى محطات نجاح الدبلوماسية الإثيوبية بشقيها الرسمي والشعبي التي حققت الكثير في هذا المسار بحنكتها ووعيها بأهمية المشروع لجميع الأطراف.

من رحم المعاناة إلى واقع يغيّر جغرافيا السياسة

وبالنظر الى سيرة ومسيرة سد النهضة، نجده مشروع ظل حلم خرج من رحم المعاناة إلى واقع غيّر الجغرافيا السياسة، وسجل حضورا على المستوى القاري متجاوزا البعد المحلي الإثيوبي، كما جسد أيضاً مجدداً  رمزية التحرر ليكون معركة عدوة أخرى، ضمن سياق التحرر الأفريقي، لكن هذه المرة بنسق جديد، ومثل سد النهضة الإثيوبي، تعبير حديث للتحرر من قيود الاتفاقيات الاستعمارية القديمة، مثل اتفاقيتي  1902 و 1929 التين  كبّلتا خيارات إثيوبيا لعقود، وأعاد بناؤه، اتفاقية عنتيبي الإطارية التي تبنتها دول الحوض الى الواجهة مجددا، مستندة إلى مبادئ القانون الدولي للمجاري المائية منطلقا من فكرة الاستخدام المنصف والمدعومة بالتعاون، والمرتكزة على حماية البيئة ، تحول ما كان ليكون على الطاولة لولا مشروع سد النهضة الإثيوبي.

ولهذا يمكن أن نقول أن سد النهضة الإثيوبي، غيّر معادلات الجغرافيا السياسية في حوض النيل، وتصدر المشهد من مشروع محلي، إلى أداة تعيد تعريف مفهوم الأمن القومي من نطاقه الوطني الضيق إلى أمن مائي إقليمي أوسع، ومع انضمام جنوب السودان إلى اتفاقية عنتيبي، بدا واضحاً أن المشروع أسهم في تعزيز المصالح المشتركة، وأن النيل يمكن أن يصبح جسراً للسلام لا مصدراً للصراع والتجاذب السياسي .

وهكذا، لم يعد سد النهضة مجرد مشروع هندسي ضخم، بل بات معادلة سياسية وإنسانية تعكس صراع الهوية والسيادة والتنمية في إفريقيا التي ترنوا الى مستقبل مزدهر لشعوبها وفق روية  إفريقيا موحدة ومزدهرة ومسالمة، يقودها مواطنوها، وتمثل قوة ديناميكية في الساحة الدولية، جميع هذه المسارات تجسدت في مشروع سد النهضة الإثيوبي الذي بدأ بحلم وأصبح واقعا حمل في طياته قصة شعبٍ أراد أن يتحرر من قيود الماضي، ويكتب مستقبلاً جديداً على ضفاف ” أباي ” كما يحلو للإثيوبيين، وهو ما يعطي الاحتفال بافتتاح المشروع نكهة إثيوبية مميزة وطعم أفريقي فريد.

 

You might also like

Leave A Reply

Your email address will not be published.